الموروث الثقافي بدرعة من الدور الاجتماعي إلى الاسترزاق السياسي
ماذا نقرأ اليوم في كل صحيفة وماذا نسمع من كل منبر، نقاش وسجال حول قضايا وطنية، دعوات للتغير من منطلقات اديولوجية وفكرية مختلفة، فقط المشكل يبقى كامنا في صعوبة تقعيد هذا الاختلاف في قالب تضافر الشروط الموضوعية التي شكلت مرجعا أساسيا له وذلك فيما يهدف إلى إنتاج خطاب موحد يجعل من النازل واحد مهما تعددت الاسباب والمرجعيات،وفي انتظار ذلك نستفيد من هذه الثورة الفكرية بإثارة مواضيع ظلت إلى الأمس القريب مهمشة وغير مرغوب بالخوض فيها لا سرا في الاعلام بجميع تلاوينه ولا جهرا في الملتقيات الفكرية والعلمية التي تجري أطوارها بين أسوار فضاءات معينة جامعية كانت أو جمعوية أو ….
ولأننا في مغرب الثقافات عجزنا عن مساءلة أنواع المهرجانات التي تقام في كل سنة وتكلف ما لا يطاق سماعه من أموال خزينة الدولة، كما أن تكرارها عند كل سنة لدليل ومؤشر على خسارتنا شوط مهم في معركة محاسبة المسؤولين عن ما يقع. لذلك رأينا باختيار أقصر حائط لنقفز عليه من خلال التساؤل عن حصة التراث والمورث الثقافي الوطني من هكذا أوراش، والإجابة عن هذا الاشكال لن تمر إلا عبر بوابة استنطاقه في راهنتيه وخلفيات تغييبه عن المحافل الوطنية وهو المرشح للدولية وكيف و أين يتم توظيفه.
ونهدف إلى أن تكون هذه المحاولة عامل من عوامل التعرية لكشف واقع هذا التراث الثقافي من خلال التركيز على جزء جهوي يعكس غنى كل وطني، إنه الفن والغناء الدرعي كجزء من ثقافة المجتمع المغربي سواء في مستواها الانتروبولوجي أو الاكسيومي، من حيث هي كل مركب يحتوي ويشتمل المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعادات وأي قدرات وعادات يكتسبها الانسان بصفته عضو في المجتمع على حد تعبير تايلور.
و لطرق باب هذا الموضوع ما يبرره في سياق لفت الانتباه لطبيعة المخاطر التي تحف به والتنديد بمقاربات الجهات الرسمية اتجاه هذا الارث الثقافي ….
وعموما فإن غنى الثقافة الدرعية أكثر مما يمكن اختزاله في هذه الورقة التقنية ، إذ كان من المفترض أن نقف عند إبداعات الانسان الدرعي، هذا الاخير استطاع مند فجر التاريخ بلورة ثقافة خاصة به هيمن عليها الطابع الشفهي بكل تشعباته وتفرعاته من حكايات و قصص وروايات حقيقية وخرافية إضافة للشعر الغنائي المحلي .
وبرز العديد من الشعراء -لا يكتبون إلا بشفاههم ولا يقرأون إلا بآذانهم- أبدعوا ونظموا قصائد مختلفة في أغراض متنوعة كما نسج الخيال الشعبي حكايات وأمثالا عجيبة ما زال الرواة يداولونها حتى الآن ولا نحتاج إلى سرد تفاصيل لكوننا اعتمدنا معرفة بالتخصيص وأيضا ما وفرته وسائل التكنولوجيا من تقريب صور وألوانا غنائية راقية شكلت آدابا وفنونا شعبية كانت غاية في الدقة والبراعة وعلى سبيل المثال لا الحصر رقصة أحواش أحيدوس الركبة الصقل والشمرة …وغيرهم مما يعكس الصورة الفسيفسائية الاثنية واللغوية بحسب الأعراق الاجتماعية التي تؤديها تبعا لاختلاف وتنوع القبائل المتساكنة.
والاعتراف بمسؤولية ونصيب نخب ومثقفي هذا المجال قد ساهموا في تكريس واقع التهميش الذي طال هذا المنتوج متجلية في عدم تدوين هذه النصوص بل وتركها فريسة للضياع والنسيان وعدم الاهتمام بها لا يجب أن ينسينا الفاعل الحقيقي في صيرورة هذا التهميش و الاقصاء ممثلا في طبيعة تعاطي الجهات الرسمية مع حمولة و موروث جسد بصدق آمال وآلام الإنسان الدرعي وعبر خير تعبير عما يخالج نفسيته على مر العصور.
ونجحت هذه الجهات بمختلف تلاوينها في نسف خلفياته الحقيقية وفي تشييئه عبر أساليب التدمير المعنوي الممنهجة تجاهه كالاستهزاء بأساليب ماكرة بالمحاصرة والإهمال فالتغييب التام، انسجاما مع مسلسل شعارات مزيفة ومبادرات وهمية لا نملك أمامها إلا قوة التساؤل الافتراضي حول ماذا لو حضيت هذه الثروة بعناية الدولة و فرقاء االمجتمع المدني .
ولأن الكل ينظر بمنظار المادي قبل الرمزي تبعا لمنطق العصر فإن هذه العناية سيكون لها مردود يجثم بثقله ووقعه على حياة الساكنة، غير أن هذا الطموح يصطدم بسياسة نسق سلطوي بترمونيالي لا يؤمن بطرح الفرضية المعاكسة لواقع الشرط الوهمي في أي ميدان من الميادين للإجابة عن معضلاته.
فعلاوة عن غياب أي ارادة فعلية من طرف الجهات الرسمية لتحصين هذا الموروث من الضياع والحفاظ على بنيته الايقاعية، نسجل تنامي التوظيف الرسمي لهذه الانماط الغنائية والفلكلورية وخاصة في التدشينات والمناسبات الرسمية مما جعل منها أشياء تحت الطلب وساهم في انزياحها عن أدوارها الاجتماعية التي كانت تقوم بها وبالتالي خروجها عن أعراف وقوانين المجموعات البشرية التي أنتجتها وأفرزتها لتصبح عرضة للدفن النهائي.
و حتى إذا قبلنا أمر الواقع الذي يجعل هذه الفنون تتحول من الوظيفة الاجتماعية التي يجب أن تبقى مؤدية لها داخل منتجيها إلى وظيفة أثرية وسياحية أسندت لها رسميا،فهناك مفارقة تكمن في ان عائدات تسييح الموروث لا تستثمر في شيء على المستوى المحلي بما سيعود بالنفع على سوسيولوجيته و دينامية اقتصادياته، وإنما تتم عملية تبييض هذه الاموال او تهريبها لمناطق أخرى بدريعة غياب أرضية خصبة للاستثمار في المجال الواحي .
غير أن أخطر ما يتهدد هذا الموروث مرتبط بظاهرة الاسترزاق السياسي أو تسييس الترات إن صح التعبير، لأننا لاحظنا في الأونة الاخيرة بعض الاحزاب تستعمل منوعات فلكلورية في حملات الدعاية الانتخابية وأكثر من ذلك تستغل نفوذ شيوخ –شعراء- في هذه الفنون الناتج عن مكانتهم المحترمة لدى الاوساط الدرعية من أجل تلميع صورتها أمام الرأي العام الدرعي من جهة بل واصبح يوجه للترفيه عن الاقليات البرجوازية-النافدة في هرم السلطة – من جهة اخرى.
وسأغتنم الفرصة لتوضيح مجموعة من المغالطات التي جرت عملية تمريرها من قبل الاعلام الرسمي على هامش ما يسمى بالملتقى الدولي الأول للسياحة المستدامة و التنمية المحلية ،والذي انعقد في ما بين 29مارس وفاتح أبريل من السنة الماضية والذي خرج بتوصيات كصيانة التراث الحضاري والثقافي المحلي وتثمينه تم ادماجه في مخططات التنمية المستدامة وإدماجه في المناهج التعليمية وجعله موضوعا للبحث العلمي ،والقيام بحملات تحسيس الساكنة المحلية بقيمة التراث وإشراكها في حمايته، وشعارات من هذا القبيل لا يسعنا الوقت لذكرها .
لكن ما يجب أن نؤكده تماشيا مع واقع هذا الموروث اليوم هو أن كل ما قرره الملتقى ظل وسيظل حبيس أذهان النخب الذي حضرته حثى أنه ليست هذه المرة الاولى التي ترفع فيها هذه الشعارات في مثل هكذا ملتقيات وأنها معطيات نظرية مجردة ومتعالية عن الواقع أما على مستوى العملي فلا شيء يتحقق وهنا يكمن التناقض بين ما يقال و بين ما يحدث.
وبموازاة مع ما سلف تضليل إعلامي بصور مقلوبة حثى لا توحد أي رؤية للفئات المهمشة في مختلف أقطار المغرب في أفق البحث عن حلول مشتركة إضافة إلى أنهم لاحظوا أن المنطقة غدت مادة دسمة للاستهلاك الاعلامي في إطار تغيير استراتجي إعلامي في اتجاه تغطية المجالات المهمشة والتي يمكن أن تضمن نوع من التمييز مقارنة مع المدن حيث إعادة استهلاك نفس المادة كل يوم مما يجعل الاعلام روتينيا وبالتالي تقلص عدد المهتمين مما ينعكس سلبا على مداخله .
لتبقى الحقيقة الثابتة والتي لا غبار عليها هي أن صمود هذه الفنون من صمود الانسان الدرعي كما أن هذا الصمود إنما يرجع إلى المشاركة المفتوحة للجميع لأن طبيعة المجتمع الدرعي يطبعها التلاحم والتضامن والجماعية في جل الميادين سواء في المجال السياسي كالأحلاف والتفاف القبيلة ضد الغزو الخارجي أو الاقتصادي كالتعاون الجماعي في الأعمال الاجتماعية وحد الصايم نموذج تم تكريسه داخل القبائل حتى يومنا الحاضر، أو الاجتماعي متمثل في مساعدة الجميع في تحمل تبعات الوفيات لذا لم يكن غريبا أن يمتد هذا المفهوم الاجتماعي إلى مجال الفن والغناء ليبرهن عن زيف الشعارات …
وهي رسالة مزدوجة –منا- إلى الغيورين للالتفاف حول هذه الثروة الثقافية، كما هي رسالة للمسؤولين ليتحملوا تبعات سياساتهم…فلا زال انسان درعة يصدر بيانات الصمود والمقاومة ويطمح للتغيير ودخول التاريخ من أبوابه الواسعة فانتبهوا يا ساسة .