الأبعاد الغائبة في الثورات العربية

0 444

ذ. رشيد رملي

يتفق جميع المتتبعين و المحللين على أن ما شهده العالم العربي و يعرفه اليوم يشكل خلخلة قوية و هزة عظيمة في بنيان النظام السياسي ، سواء من الناحية الكمية (سقوط أربعة أنظمة )أو من الناحية النوعية (طبيعة الأنظمة الساقطة و دورها على الساحة الإقليمية خاصة في الحالة المصرية و تأثيرها على القرار العربي ).

ولئن كانت نتائج و ثمار هذا الربيع العربي لم تقطف كاملة و لا زالت في مرحلة مخاض و تجاذبات و اصطفافات من هذا التيار أو ذاك ، فيكفي هذا الحراك فخرا أنه اقتلع أوتاد ديكتاتوريات كان يعتقد إلى حد قريب أنها قدر محتوم لا مرد له من الله ، بل كان أمر سقوطها لا يراود الناس حتى في الأحلام بله الواقع .

إذا أضفنا إلى هذا انعتاق الشعوب و تحررها من عقدة الخوف و الإذلال الجاثمة على صدورها لردح من الزمن و هبوب رياح و نسائم الحرية ،لتطرد شرور الاستبداد الغاشم المسلط على رقاب البلاد و العباد ، أمكننا القول بلا تردد و لا خجل أن مزايا و حسنات هذا الربيع حاصلة و قائمة و لا شك فيها .

لكن الملاحظ على بركات و غنائم هذا الربيع أنها مست المجال السياسي فقط دون غيره من الميادين و المجالات ، وقد يحلو للبعض أن يقول بأن ميدان السياسة ذاك هو الأساس و الفيصل في كل تغيير، و يدخل في أحشاء هذا الادعاء قولهم الشهير ّإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن و زعمهم أنه إذا تغير النظام السياسي، فتغيير ما سواه أيسر و أوهن . على كل لن نخوض في تفاصيل هذا الرأي ، و حسبنا أن نلقي الضوء على بعض الجوانب و الأبعاد التي كانت غائبة في هذه الثورات ، و قبل الخوض في طيات هذه الإشكال لا بد من تسجيل الملاحظات التالية:

1- أننا لا نستصغر أو نقلل من أهمية ما حصل من تغيرات في قمقم النظام العربي، وإن كان غير كاف.

2 – ضرورة استحضار ووعي السياق و الظروف التي انطلقت فيها تلك الثورات، حتى لا نحملها ما لا تحتمل و لا تطيق.

3- أن لحظة ما بعد الثورات قد أبانت عن معطيات جديدة و هي جديرة بالاهتمام و التنبيه والوقوف عندها ، نذكر على سبيل المثال ، ظهور تيارات و جهات حسبت نفسها على أهل الثورة وظهر من سوءاتها مؤخرا أنها تريد الانقلاب على أبسط مبادئ الثورة كالاستقواء بالأجنبي و الاصطفافات الفئوية و الطائفية و القبلية وتغليب المصلحة الإيديولوجية و الحزبية على مصلحة الوطن و الأمة. وهنا يلزم التذكير بدور النخب و مهامها التاريخية و التي – بكل أسفأفرغت مواقعها و أصبحت جزءا من المشكل عوض أن تكون طرفا في الحل ، بل إننا نتابع في الكثير من الأحيان، أن هذه النخبة تسير على هوى العامة ، و تخضع لرغباتها، حتى لا تفقد و تحرم من بركاتها و صكوك رضاها الذي به تحتمي و على أساسه تتحرك.

كان لابد من بسط هذه الملاحظات حتى تكون الصورة جلية ، ومع ذلك نرى أنه من فرائض اللحظة التاريخية التنبيه إلى بعض الأبعاد الغائبة في هذه الثورات لنسجل بأن بعدين أساسيين كانا في خانة المهملات والمنسيات .

أول تلك الأبعاد ، البعد التربوي الذي له خصوصية وحساسية كبيرة في كل دورة إصلاحية أو مسيرة تغييرية، سواء كانت بمنطق إصلاحي تدرجي أو بمنطق ثوري شمولي ، ذلك أن التربية بمفهومها الواسع تكتسي صبغة استراتيجية عميقة ،إنها بمثابة الأساس و البساط الصلب الذي يمكن البناء عليه، بكلمة إنها البنية التحتية لكل فعل تغييري، و بدونها يستحيل أن يثبت أو يستقيم أي إصلاح أو ثورة. ها هنا بالتحديد نتساءلوأيدينا على قلوبناعن أدوار مؤسسات التنشئة كالأسرة و المدرسة و الإعلام و غيره ، في النهوض و الاضطلاع بهذه المهمة الجليلة و المسؤولية الجسيمة، مهمة تخريج و صناعة المواطن الصالح المنضبط و المتحلي بالمسؤولية.

ثانيها: البعد الثقافي بما هو رافعة أساسية للتغيير، إذ هو الذي يعطي للسياسة معنا و يجعلها قسمة مشاعة بالتساوي بين جميع فئات الشعب ، و يضمن لها عمقا نظريا يعصمها من السطحية الجوفاء و من الشعارات الفضفاضة العمياء ، هو الذي يرسخ في المواطن ثقافة الواجب و الحق ، و ثقافة الانتماء الواسع للوطن و يحصنه من وباء الطائفية السياسية و العرقية و القبلية . بل يضمن لنا حدا أدنى من الانضباط السياسي الذي يجعل الفرقاء يتنافسون على أساس البرامج و المشاريع ، و يربي فينا ثقافة الإنصات إلى الآخر و احترام الرأي المخالف و ترسيخ أدب الاختلاف وسبل تدبيره .

و قد شدد على هذا البعد مفكرنا مالك بن نبي طيب الله ثراه ، ومن بعده الكاتب المبدع الطيب برغوت ، حين أكدا على أهمية المسألة الثقافية في النهوض الحضاري، و أنها لبنة من لبنات أي شهود حضاري.

إن موطن الإعضال اليوم يكمن في الإنسان و عندما يتعلق الأمر بهذا الجانب يكون المصاب جلل و الفاجعة كبيرة ، و لن نستطيع التزحزح من هذا الوضع المأزوم إلا بإعادة طرح الأسئلة الصحيحة حول التربية و الثقافة و كيفية توطينها في النسيج الاجتماعي ، و هذا الأمر ليس بالأمر اليسير ، إذ يتطلب زمنا و ثمنا ، فالقرار السياسي بدون بناء ثقافي و تربوي لن يكون له أثر و لا مفعول ولا رائحة. ،والقوانين بدون أساس تربوي متين وهم ، وإلا من منا اليوم – يا ترىيحترم أبسط القوانين كقانون السير و أوقات العمل ؟من منا يقدر عمله و مهنته؟ ومن منا يقوم بواجبه على أحسن وجه؟ تلكم أسئلة أخرى نابعة من نفس الرحم ،رحم المعاناة و فقدان المعنى و المبدأ و القيم ، و التي تحتاج إلى ثورة خاصة و ربيع يحرك مياه هذا المحيط العربي الراكدة منذ عقود علها تنير سماء هذا الأفق الملبد بغيوم التيه و الفراغ القاتل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.