المغرب وأمريكا، سذاجة الأنا و نفاق الأخر
كثر الحديث في هذه الأيام عن الولايات لمتحدة الامريكية وقرارها الاخير حول توسيع صلاحيات المينورسو لتشمل مجالات واسعة في الصحراء، وتباينت ردود الافعال حيال ذلك بين من قال بغياب خيارات تشاركية في تدبير مثل هكذا قضايا، ومن يرى بأن المنعطف الاخير ليس إلا تعبيرا عن القصور في الرؤية وضعف المنهج لدى الالة الدبلوماسية المغربية. في مقابل ذلك ذهب آخرون إلى تحميل نسق السلطة القائم تبعات المقاربة القمعية التي ينهجها عبر ربوع التراب الوطني مما يثير قلق الرأي العام الوطني و المجتمع الدولي حول الوضع الحقوقي ويتساءل هذا الطرف ردا على أي تشكيك فئ مدى وطنيته حول ما الداعي للقلق والخوف من المينورسو في سياق ادعاء مراكز صنع القرار في المغرب بتحقيق تقدما غير مسبوق في مجال حقوق الانسان؟
غير أننا نرى بأولوية أخد مسافة قبل الخوض في غمار أي رأي بالتحليل والتفسير لمضىانه واعتباراته وإن كنا نتماهى إلى حد ما مع كلاهما -جزئيا لا كليا- في بعض الحقائق التي لا يمكن أن نصمد أمامها لأنه لا يمكن أن نبحث عن الاخفاق في ممارسة الاخر بقدر ما هذا البحث ملح في ممارسة الأنا لذلك فمعرفة شيئا عن مناخ العلاقات الدبلوماسية بين أمريكا والمغرب لمن شأنه أن يساعد على فهم اختلالات خطاب الدبلوماسية المغربية على أننا لا ندعي –في هذه الورقة التقنية- الاحاطة والإلمام بكل تناقضاته.
وأول ما يستوقفنا عند النبش في جذور هذه العلاقات هو اسبقية المغاربة بالتعرف على بلاد العم سام بفضل دور الملاحين – كما جاء في بعض الابحاث الاركيولوجية – مند القرن الخامس الميلادي أو جهود الدبلوماسيين بعد ذلك. بيد أن المسألة التي حضت باهتمام المغاربة بكل ثقة وعلقت بذهنهم هي كون المغرب أول دولة تعترف باستقلال الولايات المتحدة الامريكية سنة 1776م في وقت لم يجرأ فيه جيرانها على اتخاذ مواقف مساندة للاستقلال نظرا لقوة الامبراطورية -الانجليزية- التي لا تغيب عنها الشمس، وكان جورج واشطن قد رفع إلى محمد الثالث دستور أمريكا المستقلة مرفقا بعبارات الامتنان والشكر، مما ساعد على تخصيب الارضية لمعاهدة الصداقة وملاحة التجارة التي امضيت بمراكش 1786.
و لم تخرج هذه العلاقات عن الاطار العام الذي رسمه المغرب في تعاطيه مع العوالم الغربية مختزلا في ثنائية درا الاسلام ودار الكفر، مما جعل هذه الاتفاقية تتأخر من حيث أجرأة بنودها إذ لم تدخل حيز التنفيذ إلا في 1797 وذلك عقب فتح الولايات لأول قنصلية بطنجة.
لكن ما يثير الانتباه هو الهدف منها، ذلك أن الولايات المتحدة الامريكية ابتغت منها حماية سفنها وتحركها بما يعكس قوة الادراك والوعي اللذان تتمتع بهما الدبلوماسية الامريكية انداك وهذا ما كرسه لجوءها إلى المغرب للتوسط لها مع تونس وليبيا، وفسرته الاسطوغرافية المغربية الرسمية بضعف السياسة الامريكي على أساس أن قدرتها لم ترقى إلى مستوى حل مشاكلها الخارجية واستندت في حكمها هذا على طلب جورج واشنطن من المغرب بأن يتوسط بين أيالة طرابلس وتونس وبلاده، لكن قراءة معكوسة لهذه الاحداث المتلاحقة كفيلة بالبرهنة على تفوق الامريكيين الذين جعلوا من المغرب قنطرة وجسر عبور وسخروه لصالحهم، وتقديم بعض التنازلات الرمزية ما دام الهدف الاساسي هو مصلحة امريكا -المادية- في منطقة شمال افريقيا عبر المغرب في ظل فتور وتوتر الذي طبع علاقتها بتونس وليبيا.
واستمرت العلاقات على هذا النحو مع تبادل الهدايا لما لها من قيمة رمزية في توطيد و تمعيق أواصر الصداقة بين البلدين، إلى أن دخلت مرحلة عرفت بالأزمة وتعزى هذه الاخيرة إلى تغليب المصالح الشخصية من طرف بعض ممثلي أمريكا كما جسد ذلك نموذج سفير محمد بن عبد الله ماتيوس، حيث أن القنصل العام اشتهر بالاتجار في الحماية القنصلية وبمضارباته العلنية. لتبقى العلاقات متسمة بالتوتر حتى عهد الحسن الاول متأثرة بطبيعة التناقض السائد بين ممارسات القناصل وردود أفعال السلاطين المغاربة أو العكس.
كما شكل تربص امريكا بالمغرب تنتظر ضعفه لتستولي عليه شأنها في ذلك شأن فرنسا وانجلترا منعطفا حاسما في تاريخ هذه العلاقات حتى أن ماتيوس رفض استقبال سفارة المولى الحسن الأول سنة 1880 التي بعث بها الاخير للرئيس الامريكي، إلا أن اتجاه البلدين نحو توطيد تبادل المصالح الاقتصادية أرخى بضلاله على العلاقات و جعلها تعيش نوعا من التوتر السياسي في ظل انتعاش واستقرار اقتصادي.
وساهم مشكل الصحراء في جعل المغاربة يوسعون من علاقاتهم مع الولايات ،رغم ضعف اهتمام امريكا بهذا المشكل إلى حد أن الحسن الثاني رد قائلا في جواب عن سؤال “يا ريث لو أن امريكا قامت بدور من هذا القبيل لكنا مطمئنين …مع الاسف. امريكا الدولة الاولى في العالم لا تعرف الملف ولا تعرف تاريخه. ولا تعرف حقوق دوي الحق …إن من أهداف رحلتي إلى امريكا إحاطة الرئيس كارثر بالموضوع وشرح الملف للمسؤولين الامريكيين ” و كان قد زار امريكا في 1981.
إذا فقمة العبث في السياسة الخارجية أن يستمر المغرب في المراهنة على دولة كأمريكا في حل مشكل هي أصلا لا تعرفه، ففاقد الشيء لا يعطيه فكلما استطاعت أمريكا أن تفعله حيال القضية هو تزويد المغرب بعتاد حربي في ما يهدف إلى إدكاء نزاع مسلح في المنطقة يفضي إلى خراب جميع الاطراف وما تعبيرها عن دعم الاستفتاء والتنويه بوقف اطلاق النار إلا نوع من النفاق السياسي ترفع الراية البيضاء للسلم في المنصة الدولية وتعمل على رفرفة الراية الحمراء للحرب في الخفاء، إذ كيف لمن يزود بالأسلحة أن يلوح بالسلم اعتبارا أن الاقتصاد الامريكي يقوم في جزء كبير منه على تجارة الاسلحة ورواجها.
وبالرجوع إلى العلاقات وقعت أمريكا اتفاقية تعاون ثقافي وتربوي و بعد ذلك اتفاقية التبادل الحر وهو المشروع الذي أعلن عنه 23 يناير 2002 اثناء زيارة الممثل التجاري الامريكي روبرت زوليك للمغرب وذلك بهدف إلغاء الحواجز الجمروكية بين البلدين، وتم توقيعها في 15 يونيو 2004 بعدما قال وزير التجارة الامريكي ايفانز أن المغرب من بين الدول الاولى التي قررنا أن نجلس معها ونتفاوض حول اتفاقية للتجارة الحرة.
عموما فما يهمنا من استعراض هذه اللوحة عن العلاقات مضمنة بشدرات من الاحداث التي أثرت بشكل أو بأخر في مسارها والتوائها هو تبيين أنه لم يحدث أي تغيير من ناحية المغرب فبين الامس واليوم ظلت الخارجية المغربية تعزف على أوثار الماضي بالاستناد الى ما اتينا على ذكره في مسألة الاعتراف بالاستقلال وكأنه دين على امريكا سيجعل من مواقفها اتجاه المغرب ثابتة مهما كان حجم المتغيرات.
هذا المنطلق نفسه شكل ركيزة الدبلوماسية المغربية في تعاطيها مع الاخر الامريكي وفي اقناعه ليس وحسب في الفترة الحديثة والمعاصرة بل حتى في الوقت الراهن بما يتسم به من تحولات جيو-سياسية وسوسيو-اقتصادية، وهذا ما يعكس سذاجة الدبلوماسية المغربية التي ظلت وفية للخطاب التي نسجه السلاطين مند قرون خلت، متجاهلة ما قد يتعرض له من تفتت – مرحلي – بفضل عوامل الزمن ودينامكية البلدان.
ولازال المغرب يتعامل مع امريكا إما بنوع من المغازلة أو بنوع من التحسيس بأفضاله التاريخية عليها، في حين تبقى الحقيقة الثابتة التي لا غبار عليها هو أن امريكا كقيادة للرأسمالية تصوغ مواقفها تبعا لمصالحها سواء داخليا أو في علاقة هذه الدولة بدول اخرى وهذا هو منطق الرأسمالية في عالمها أو حيث تجلياتها في أرقى مستوياتها الامبريالية.
وهذا ما لم يستوعبه المغرب رغم تجليه في خطب الرؤساء الامريكيين نفسهم ففي إحداها تكلم جورج بوش قائلا “إن الولايات المتحدة الامريكية تتجه نحوكم و نحو بلدكم ليس فقط لكونكم تمثلون حصن صداقة خالدة. ولكن لكونكم صلة وصل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب وبين العالم المتقدم والعالم النامي “. إن فك رموز الخطاب المفاهمية أو نقده ابستمولوجيا يتجاوز الابعاد النفسية إلى الكشف عن أعماق مضمونه المنطقية سيبين لنا بجلاء أن الدافع ليس اعتبار للصداقة المتينة أو لشيء من هذا القبيل – كما يتمثله السياسيون المغاربة – بقدر ما هو بحث عن مواقع استرتجية للعبة استراد الخبر وتصدير القرار بناء من ناحية ورصد العوالم الاخرى من ناحية ثانية.
وفي الانتربولوجيا السياسية تعتبر الصداقة نظريا تعبير عن حقل القرابة بينما السياسة هي مجال للمصالح وتسقط السياسة في مجالات القرابة والعكس صحيح إلا في حالة التوافق المحكومة بمكنزمات وألعاب التبادل .
ولكون السلطة لا توجد في موقعها حيت تعلن عن نفسها،فإن الدبلوماسية المغربية تجد نفسها دائما في موقع إصدار ردود افعال لا انتاجها، وهذا الجمود في الخطاب وممارسة الانا يجعلنا مذهولين و مندهشين أمام حيوية وتحول الاخر.
أتصور بأن امريكا بحكم موقعها تعمل جاهدة على كسب حلفاء جدد كأبعد حد أو على الأقل تضمن حيادهم في أفق نسف خلفية الاقطاب وهذا ليس بغريب عنا في بلد يجعل من غايته مبررا لكل الوسائل وما تتطلبه التحديات التي تنتظره من سياسة أكثر توازنية بعدما أصبح شبح حرب نووية يخيم على العالم .
وإذا كانت امريكا نفسها لم تظل وفية لنظام المعسكرات وأخذت في تجديد علاقاته وتطبيعها حتى مع الاعداء القدامى، فما بالك بالمغرب، فعلى ضوء ما تأسس يتبدى لنا أن أول رسالة قوية يمكن توجيهها هي ضرورة تجاوز ارثودكسية المواقف ومحاولة استثمار ما تتيحه التطورات التي افرزتها العولمة في اعادة صياغة المواقف وتكييفها وفق ما يخدم المغرب لا على أساس التبعية التي كانت طبيعية في سياق تاريخي فما مضى و اصبحت اليوم متجاوزة، ثم الانفتاح أكثر على القوى الاخرى فإن لم يكن لاستمالتها فعلى الاقل تليين اتجاهها وثاني رسالة هي التحلي بالموضوعية لأن السياسة القمعية للمخزن و الانتهاكات الجسيمة التي تطال حقوق الانسان في هذا البلد لن يحصد منها جهاز السطلة البترمونيالي إلا هذه النتائج.
فمهما عملت الدبلوماسية المغربية على تزين صورة المغرب في مجال حقوق الانسان في التقارير التي ترفعها للأمم المتحدة، فإن الوضع في الميدان يكشف عن مفارقة بين النظري و الممارسة وهذا ما يجعل من هذه التقارير تدخل ضمن سياسة التبليد الممنهج من طرف المغرب ازاء هذه المنظمة.
لذلك فبدل أن نوجه سهام النقد لأمريكا فالأجدر بنا أن نمارس نقدا ذاتيا على أساس عقلاني بتسليح علمي لا عاطفي ونعترف بكون لغة البهتان التي بني عليها الخطاب الدبلوماسي المغربي غير مجدية وإعادة النظر في الاطر المعتمدة في هذا المجال من حيث الكفاءة والكرزماتية في الشخصية لأن أغلبها هو نتاج موضوعي للفساد بحيث ارتقوا مناصب عليا بالزبونية والمحسوبية في وقت تعيش فيه شريحة عريضة من الاطر ذات حمولة وطنية وفكرية تحت رحمة العطالة.
وفي حالة ما إذا استمر الحال على ما هو عليه في طرق معالجة الملفات الداخلية والخارجية للبلاد فإن طبقة عريضة من المجتمع ستجد نفسها أمام تجربة انتحارية مزدوجة تفرض إما اللجوء الاجتماعي والسياسي لدولة ما أو انتاج فعلي ثوري راديكالي يعيد كل شيء إلى نقطة الصفر .