لماذا نجح الإسلام في غير تربته ؟

0 388
رشيد  كابر
رشيد كابر

كنت دائما أسأل نفسي عن السر الذي جعل شعوبا وأمما من خارج الجزيرة العربية ولا تنطق بلغة الضاد تنجح بعد اعتنقاها للإسلام أن توجد تدينا جميلا يحبب الناس في هذا الدين ولا ينفرهم منه؟  وكنت أبحث عن التفسير المقنع الذي جعل شعوبا غير عربية استطاعت بعد إسلامهما أن تنتج نهضة اقتصادية واجتماعية وأن تحقق تدينا يقترب بقدر كبير من الصورة المثالية التي نحملها عن إسلامنا الجميل؟  وكيف نفهم أن نفس القرآن ونفس السنة النبوية ونفس الدين الإسلامي ونفس النصوص المقدسة قد أنتجت اليوم تخلفا وتطرفا وتشددا حينما آمن بها العرب الذين نزل الوحي الإلهي في تربتهم؟  وكيف أن نفس هذه النصوص ونفس هذا الدين قد نجح في غير تربته عندما انتقل إلى أرض أخرى واعتنقته شعوب غير عربية؟  وفي الأخير لماذا فشل العرب المسلمون المعاصرون في إنتاج نهضة وتقدم ودولة عصرية؟  ولماذا نجح غير العرب من المسلمين الذين لم يعاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يواكبوا الدعوة الإسلامية منذ بدايتها في إنتاج مجتمعات متقدمة وعصرية والحال أن الإسلام والدين واحد؟
كل هذه الأسئلة وجدت الإجابة عنها في برنامج وثائقي بثته القناة الوطنية 1 منذ أيام يتحدث عن الإسلام في أندونيسيا. في هذا البرنامج وجدت شعبا من شرق آسيا اعتنق الإسلام منذ القرن الثالث عشر ميلادي بفضل التجار العرب، يعيش اليوم حياة إسلامية حقيقية ويعيش بتعاليم الإسلام في كل أوجه الحياة العامة والخاصة. وجدت شعبا يطبق الإسلام في بساطته. شعبا متمسكا بالآداب الإسلامية البسيطة ولكنها على بساطتها هي مؤثرة في السلوك والمعاملات. وجدت شعبا فهم الإسلام في حقيقته وهو متمسك بهذا الدين أشد التمسك. وشعبا يملك تدينا يقوم على عنصرين : الأول هو التقرب إلى الله بصفة مذهلة وعبادته على أحسن وجه. وتتمثل هذه العلاقة مع الخالق في كل أوجه الحياة. والعنصر الثاني هو تطبيق قيم الإسلام الخالدة وعناصر قوته من إيلاء قيمة العمل وقيمة النظافة وقيمة العلم وقيمة التآزر وقيمة الجماعة المكانة الكبرى في المجتمع والدولة وبين الأفراد. وقد هيمنت هاتان القيمتان بكثافة على المجتمع الأندونيسي وانعكست إيجابا في تصرفات الناس. فرأينا اعتناء كبيرا بالعلم والتعلم في شتى الميادين سواء أكانت علوما عصرية أم دينية. فالأندونيسي فخور بانتمائه للإسلام وهو مقبل بشره كبير على تعلم علوم الشرع وفي مقدمتها حفظ القرآن الكريم وبالتوازي هو مقبل على علوم العصر ومصر على اكتساب آخر ما ظهر من جديد فيها. ورأينا كذلك الاعتناء الكبير بالنظافة وهي مسألة ملفتة للانتباه خاصة وأن المسلم الأندونيسي يعتبر أن قوة الإسلام تكمن في كونه دينا يقوم على النظافة. فشاهدنا في هذا البرنامج مظاهر هذه النظافة في الشوارع والطرقات وحتى في الأرياف والقرى. فالمحيط الأندونيسي هو محيط نظيف جدا والمسلم الأندونيسي يعتبر قيمة النظافة قيمة أساسية في حياته. فالإسلام في هذا البلد قد أعطى لهذا الشعب معنى جديدا وغير كثيرا من عاداته فانبنت قيم جديدة من التآزر والتآخي والتكافل وقيمة الجماعة. فالشعب الأندونيسي قد فهم أن الإسلام هو دين يقوم على الجماعة. من أجل ذلك أسس مجتمعا إسلاميا مبنيا على فكرة الجماعة الواحدة المترابطة فيما بينها فظهر مجتمع متكافئ متعاون بعيد عن العدوانية وبعيد عن الأنانية ويغلّب قيم المحبة والإخاء ويولي أهمية قصوى للأسرة والتربية.
لقد فهم الأندونيسيون أن الإسلام دين يعطي أهمية بالغة لحرية المعتقد ودين يقوم على حرية الاختيار والحرية الشخصية و أنه دين ميزته أنه لا يفرض على الناس اعتناقه ولا يجبر أحدا على اتباعه ولا على الالتزام به. وقد أثرت قيمة الحرية في الحياة العامة للمجتمع فأنتج ذلك إسلاما متسامحا تشاركيا. فشاهدنا مسلمات متحجبات وأخريات لا يضعن غطاء على رؤوسهن. واللافت أن المرأة الأندونيسية سواء أكانت متحجبة أم لا هي معتزة بدينها وتتحدث عن الإسلام بكل اعتزاز وتعتبره عنصر قوة الدولة وعنصر نهضتها. فالإسلام في حياة المرأة الأندونيسية هو متغلغل بصورة لافتة وهي تتمتع بحرية كبيرة بفضل هذا الدين الذي يحكم هذا البلد فتجدها في كل المواقع الحساسة جنبا إلى جنب مع الرجل من دون عقد ولا حواجز على خلاف ما نشاهده عندنا نحن العرب المسلمين.
ميزة الشعب الأندونيسي أنه مزج بين ثقافته وعاداته وتقاليده القديمة وبين الدين الإسلامي وقد أنتج هذا الفهم للإسلام تدينا لا يعرف تشددا ولا تطرفا ولا تعصبا في فهم الدين. ما شاهدناه في هذا الشريط ويدعو إلى التوقف للتفكير في هذا الشعب المسلم الذي يطبق الإسلام في كل أوجه حياته هو المكانة التي تحتلها شريعته وأحكامه في المجتمع. وكل ذلك قد أنتج إسلاما جميلا مزج بين قيم الإسلام الكبرى وبين المدنية والحداثة والمعاصرة. بل رأينا مجتمعا يعيش الإسلام في بساطته ومسلمين يطبقون الإسلام في شموليته ومسلمين يلبسون لباسا عاديا بسيطا فيه الكثير من الذوق والجمالية.
لقد استمعنا في هذا الشريط إلى أندونيسيين يتحدثون عن الإسلام بحب شديد وعن تعلقهم بهذا الدين وعن أهمية قيم الإسلام في حياتهم وعن مدى تمثل هذه القيم في كل سلوكيات الناس وعن اعتزازهم بأنهم مسلمون. لقد أحبوا الإسلام وأحبوا فيه سماحته وعدالته وفضائله. لقد فهموا الإسلام دينا غايته الأولى تحقيق قيم العدالة والمساواة والحق، دينا جاء لجلب المصالح للناس ودرء المفاسد عنهم، دينا جاء لبناء حضارة ومدنية ونهضة. لقد فهموا الإسلام أنه دين صالح لكل زمان ومكان فتعاملوا مع منجزات العصر بكل مرونة وسلاسة وإيجابية وتصالحوا مع كل جديد في عالم الاختراع والاكتشاف والعلم، فنتج عن هذا الفهم تأسيس دولة إسلامية متقدمة تمتلك أحدث التقنيات العلمية والصناعية والمدنية، وحداثة برزت بكل جلاء في العمارة والبناء والإدارة وطريقة العيش. لقد فهم الأندونيسيون الإسلام في عمقه وحقيقته دون التمسك بالمظاهر الخارجية وتوجهوا للجوهر ولعناصر القوة والتفوق فمزجوا الإسلام مع العلم والتعلم وبناء الحضارة والدولة المتفوقة والمتقدمة، فنتج عن ذلك إسلام متسامح ولكنه قوي. وإسلام بسيط ولكنه عميق. وإسلام يهيمن على كل مظاهر الحياة لكنه منفتح على العالم الخارجي. إسلام يقوم على الحضور الدائم للخالق لكن دون نسيان للحياة الدنيا. إسلام لا يعرف فيه الإنسان القلق والحيرة والتوتر. إسلام جميل وعميق ومتسامح وسهل. إسلام يمشي فوق كامل أرض أندونيسيا من دون تعصب ولا تشدد ولا عنف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.