التصوف بين الإيمان والرياء

0 517

سعيـد بوخليـط - باحث مغربي
سعيـد بوخليـط – باحث مغربي

في مصر سنوات السبعينات،وجراء مابات يعرف بالثورة المضادة،التي حمل لواءها أنور السادات،ضد مرتكزات الإرث التقدمي للناصرية،أصبحت حركات الإسلام السياسي،مهيمنة على منظورالتوجه المجتمعي.وضع تعضد وتصلب،مع الإيدولوجيا التي انطوت عليها الطفرة النفطية وتدفق أموال البيترول،بحيث صارت بلدان الخليج ولاسيما السعودية وجهة مفضلة لفقراء مصرمن أجل كسب لقمة العيش،خاصة وأن سياسة الانفتاح الهوجاء التي كرسها السادات،جعلت مصر غابة متوحشة يأكل فيها القوي الضعيف.

ازدهار وارتقاء الحقبة السعودية،بثالوثها الشهير :المال،الوهابية،الرجعية.شكل بكل المقاييس عائقا بنيويا ،أمام الانسياب الطبيعي،للتاريخ العربي نحو الكونية بثالوثها أيضا المطلق :العلم،الحداثة،التنوير.

هكذا،تواترت الهزائم والانتكاسات عسكريا وفكريا واقتصاديا،مقابل تشكل وتبلور هيكلي مؤسساتي،لمعطيين اثنين لا ثالث لهما : الإستبداد والتخلف.

في المغرب،وارتباطا بنفس الفترة،وبالضبط بداية سنوات الثمانينات،حيث الجامعة مستمر إشعاعها،بإفراز نخب مشبعة بقيم الفكرالتنويري.صدر قرار رسمي،ينص على إغلاق شعبة الفلسفة،وتعويضها بأخرى تسمى دراسات إسلامية. اختفت العلوم الإنسانية،بكل زخمها وثقلها الإبستمولوجي والمنهجي والتربوي،لصالح دوغماطيقية التأويلات العقائدية الجامدة،بالتالي مختلف تشكلات التوتاليتارية الشمولية.

منذئذ،استمر نزيف المنظومة التعليمية،وتناوبت أجيال أريد لها أن تكون”ضباعا”،ولازال الحال كذلك،إلى درجة أنك قد لاتميز حاليا بين جامعة مررت منها خلال سنوات،وحضانة للأطفال :عنف ولعب ولهو وقفشات فارغة،ثم نقاشات صاخبة تصب في التقاطعات والتقابلات بين تسريحة شعر هذا الممثل التركي وذاك اللاعب.

عندما وقعت أحداث 16ماي2003،حاولت الدولة التخلص من آثار قرارها السابق، غير المحسوب العواقب لحظة الإقدام عليه لحسابات سياسوية ضيقة،بلملمتها ما يمكن تداركه،فانطلقت تدغدغ أمام الملأ مشاعر الفلسفة والتفلسف،والعقل والتعقل،والحكمة والتخلص من كل تحكم،مادام العقل أعدل قسمة بين البشر،ولأن بين الحقيقة واللا-حقيقة مساحة ترسمها،ذات إنسانية حرة وجوديا و مسؤولة عن حمولة ماهيتها.

غير أن الاستنجاد بمجتمع الفلسفة،بقي في حدود الشعارات الرنانة والبراقة،التي تترقب فقط بمكيافيلية ما ستسفر عنه مجريات الأمور، وفق معطياتها السياسية المباشرة.هكذا،بقيت المواقف مرتجلة،غير واضحة المعالم،تتغير بمائة وثمانين درجة حسب الأهواء والأمزجة.

ترفض الفلسفة رفضا قاطعا،المس بأي حق من حقوق الفرد.تواجه الاستبداد،بمختلف تجلياته ما صغر منها وما كبر،والتطرف المذهبي سواء اكتسى لبوسا دينيا أو غيره،ثم التصوف المؤدلج ،الذي بدلا من بقائه في سياقه الجدير به،أي ممارسة إيمانية محض ذاتية بين الشخص والله،بغير كثرة ادعاء ورياء واستدعاء لمنافع مادية،أضحى  لعبة فولكلورية تتوخى إعادة تكريس بنية المشيخة بأشكالها المتهالكة البائدة،والمنظومة المجتمعية المستندة على الرعوية،حيث الإنسان عبد مروض لأخيه الإنسان.

تمنح الفلسفة الفرد،حصنا منيعا ضد التفقير الفكري قبل المادي،وتمده بثراء عقلي،يحمله نحو عوالم للتأمل، غير متناهية.

 الاحتراس والتهيب من الأفق الفلسفي،ظل قائما لأنه يقتضي في جوهره،ثلاث لبنات جذرية شجاعة جدا1 : -مجتمع،يرتقي حقا، بالإنسان كقيمة أولى وأخيرة. 2-مجتمع،يكرس مرجعية المواطنة، بكل ما تنطوي عليه من بناء مستمر،لمشاريع سياسية وسوسيو-ثقافية،مع تقديس للحريات الشخصية  3 .- مجتمع،ينتج ويستهلك ويتداول المعرفة.

ولأن الخلاص،لم يكن على هذا المنوال المفترض حدوثه،فقد انزاحت آليات الإخراج والمونطاج السياسيين،نحو وجهة اعتبرت أيسر وأسهل، وفي إطار اجترار بكيفية أخرى  للمرتكزات والثوابت،أقصد ثقافة التصوف والمتصوفة،الناسكين المتزهدين،بمعنى أناس لايريدون من الحياة وأهل الحياة شيئا،غير أن يتركوهم لحال سبيلهم في  زوايا وأضرحة –حاليا قد تصير فنادق من الصنف الممتاز، أو أحزاب لقضاء أغراض دنيوية- يتعبدون كل آن ولحظة،بجوارحهم وحواسهم،غير مكترثين قط بشؤون محيطهم،ماداموا يظنونه غارقا إلى أخمص قدميه،في بوتقة غرائز فانية،يستحيل إشباعها وإرضاؤها،لأنها من جنس الناسوت الذي يتلبسه الشيطان في جميع خطواته.

وقد سردت لنا كتب التاريخ والسير،حكايات مذهلة عن تلك الجماعات التي انسحبت إلى الهامش المجتمعي،كي تشتغل فعلا على قضايا أنطولوجية في غاية التعقيد والزخم النظري،فأورثوا تراثا مهما،ونموذجا سلوكيا يبوح بكثير من الطهر والاستقامة .لكن،مالفرق بين التصوف كما هو، واللاحق المبتدع الذي يعيد إنتاج جل مظاهر الانبطاح والإذلال؟

إذن،حينما انتفت منظومة السؤل الإشكالي،حلت محله صنمية القوالب الجاهزة لترانيم الشيخ الذي ارتقى بدوره من مجرد كائن آدمي،إلى آخر خارق واستثنائي،فاستشرت أبعاد العلاقة العمودية بين المتميز والدوني، الكهنوت والناسوت، وصارت المدخل الوحيد لاستيعاب خطاب محددات السياسي والثقافي.

خلال عقود متتالية،اعتبر الحزب والجامعة،رافدين لا محيد عنهما،بهدف موضعة مسارات العقلانية والأنسنة ،وتكوين الشخصية المغربية ،القادرة على مجابهة تمثلات التشيؤ.

بيد أنه حاليا،يظهر وكأن الحميع متفق على وصف الحزب والجامعة،بالزاوية. سياسيون،تحولوا إلى موميات محنطة يتبرك الأتباع الصغار والكبار،بتقبيل أياديهم ورؤوسهم وأكتافهم(الصورة الشهيرة لعباس الفاسي وهو منبطح على يد امحمد بوستة.أو شباط ،وقد مد يداه متبخترا نحو أحد المهرولين).الجامعة بدورها،لم تعد رأسا للمجتمع،بل دهاليز معتمة من الو لاءات،ومجالا خصبا لأي مدرس متخلف،كي يتفاخر بسلطته الهرمية،القائمة على الرضوخ والاستكانة والاستجابة الكلية….

المتصوفة الجدد،أصحاب أجساد وافرة النعمة والتنعم،يجتمعون في محلات ومنتديات فاخرة،كي يرددوا جماعة تراتيل وأناشيد،يقولون بأنها ستعلم الآخرين مبادئ الرحمة والتسامح ! .فكثرت وشاعت هذه الاحتفالات،بمناسبة ودونها،مع كرم حاتمي من الدولة،وهي تغدق عليهم مالا وفيرا وتسلط عليهم، إعلاما مبجِّلا.

في حدود رأيي المتواضع،الإسلام بقدر مارفض الرهبانية والتطرف والإكليروس والطائفية والتشيع والعنصرية والعرقية والوصاية والرياء والإدعاء،فإنه كذلك وبنفس الحدة، دحض وفنّد الطرقية والمذهبية والزوايا والتقرب إلى البشر،بأي شكل من الأشكال، انطلاقا من قاعدة  لافرق بين هذا وذاك، معتبرا بأن مسألة التعبد شخصية جدا وسرية،تظل في إطار حوار صامت بين الخالق والمخلوق،ولايجوز بتاتا انتقالها إلى الفضاء العمومي والترويج لها،وإلا صار الأمر تعديا على حرية الاعتقاد لدى الآخر،فأن يؤمن أو يكفر، يعتبرشأنا خاصا به.

إجمالا،في زمن التبست معه المفاهيم بكيفية مبتذلة،لاشك بأن الحد الفاصل بين المتصوف وغير المتصوف،المتدين وغير المتدين،  الصالح والطالح حسب استطرادات هذا المنطق ،يتمتل في خدمتك الصالح العام وقيامك بالواجب المطلوب منك،انطلاقا  من موقعك، غير ذلك،لايهمني مطلقا. 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.