الجامعة المغربية وأوراش التشغيل : الواقع والمبررات
قدر كل فرد،أن يتعلم،ليس بهدف الحصول على عمل يدر عليه دخلا ماديا،لكن السعي أجل وأعظم.يملأ،جمجمة رأسه،توقا لتحرير إنسانيته من كل أنواع التشيؤ والصنمية،بل،يستوعب أسئلة وجوده.كذلك واجب،على المجتمع المنتمي إليه ذاك الفرد،أن يوفر له أسباب الكرامة.والعلم،يجسد المداخل الجوهرية،صوبها.
نحن في المنظومة المتخلفة،لازال مفهومنا للكرامة، ملتصقا بعتبة الكسب المادي،ولم نتحسس بعد مستويات الرمزية الرفيعة،حيث الفرد سيد على نفسه بكل ماتوحيه الدلالات،ويصير المجتمع برمته في خدمة تحققات كل فرد.هكذا،فالفرد مشروع منفتح لانهائي،بقدر كون المجتمع، سياق إيجابي يخصب ممكناته.
وأنا أنحدر،إلى درج أقل ثقابة ومفهومية كي أقارب بعضا من مكنونات علائق العلمي بالذاتي،بالتالي الأهلية من عدمها،ارتباطا بمجتمع لازالت سياقاته في حاجة ماسة إلى جهد جهيد، بهدف الارتقاء نحو آفاق حقا حديثة،تتجاوب مع القيم الكونية التي أدركها العالم المعاصر.
أقول،كلما اتجه خيالي نحو هذا الموضوع،إلا واستحضرت ثانية،بنوع من الامتعاض المكفهر،جوابا عن استفسار،قذفته في وجهي منذ فترة بعيدة،سيدة ناضجة تشتغل كمدرسة للعلوم الطبيعة،في السلك الثانوي.
عندما أخبرتني،مبتهجة بنجاح ابنها في الباكلوريا،بمعدل “عبقري”.بادرتها مستفسرا،وأنا متلهف لمعرفة وجهة الجامعة،التي سينتقل إليها.فجأة،بدت غيوم من الغضب، تلبد ملامح وجهها،فزادها الحال بؤسا على بؤس، تكلس سنوات غير قليلة من المعاناة العملية والحياتية : ((ماذا الجامعة؟أي جامعة يا أخي؟إنها ملجأ للحثالة !! لا أريد ذبح ابني بدم بارد،مع سبق الإصرار والترصد،أو أحكم عليه بالإعدام مسبقا)).
صعقت حقا،لأني لم أعتقد بأن جامعتنا ،التي تعتبر صاحبتنا من خريجيها، قد بلغت مبلغا من الكراهية في النفوس.طبعا،الحثالة توصيف جارح،قد نتفق على نتائجه ونختلف حيال الأسباب.فلاشك،أنه اختزل مؤسسة الجامعة،في رأي الكثيرين، وربطها بمدى قدرتها حاليا على ضمان نهاية سعيدة لأهلها.بلغة مباشرة،قدرا من التنعم المادي والكرامة الاجتماعية.
سيتجلى،هذا الحكم لدى أغلب الآباء و الأمهات،في استطرادات أخرى مثل : ((الجامعة !كأنك تتعمد الانتحار قصدا. هي،فضاء للمنتظرين،العاجزين عن الاستباق إلى المبادرة من أجل صناعة المستقبل. إذن، الانزواء بين زوايا المدرجات، يعتبر انتظارا عبثيا بكل المقاييس)).
نعلم،أن الجامعة قد ظلت لحقب ليست بالقصيرة،ورشا أوليا،يغني مرافق الدولة بالأطر والكوادر، في المجالات النظرية و التقنية.لكن،غداة التصادم بين قداسة الجامعة وانحطاط السياسة،أضحى شعاع الأولى يخفت ويتقلص رويدا رويدا،لصالح ظلمة وظلم الثانية.في نهاية المطاف،سينتصر الرسميون بجلاء لمنطق المال ومآلات الليبيرالية المتوحشة،حيث لاصوت يعلو على البيزنس،ثم تحول الكائن إلى سلعة معروضة في السوق،ممتثلا بدوره لقانون العرض والطلب.
التنكر إلى صنيع الجامعة،ومن خلاله اغتيال للعقل والإلقاء به إلى غياهب الجحيم دون رجعة ،رافقه في المقابل،تنمية للتسطيح والغباء وإفراز بنية الروبوتات.هكذا،بدأت مخططات التفقير المادي والتحقير المضموني للأفواج ،فتراكمت حلقات ماسمي قدحا بعطالة الأطر العليا -داخل بلد لازالت نسب الأمية تلامس الستين في المائة-وكذا مختلف أبعاد النقاشات التي رافقت نشوء الظاهرة،منذ أواسط سنوات التسعينات :مسوغات التوظيف المباشر من عدمه؟ كفاءة/لاكفاءة؟المسوغ الاجتماعي؟سؤال المنظومة التعليمية؟بقاء الجامعة أو اندثارها؟أولوية التكوين العلمي،أم المهني؟علاقة النظرية بالواقع؟إخفاق السياسات المتبعة؟إلخ، إلخ.
وضع،قوض هالة الجامعة العلمية والتفكيرية،محيلا إياها إلى واحدة :النفاذ إلى سوق الشغل،ببعده التبسيطي المبتذل،لاسيما وأن المحتفلين دائما بالجامعة المغربية،يمثلون أبناء الفقراء والمهمشين،الذين شكلت هذه المرحلة بالنسبة لهم،بوابة وفرصة نحو الارتقاء الطبقي، ومصدرا لإنتاج الثروة. إذن، بخصوص هذه النقطة ،أريد الإشارة بسرعة،إلى ما يلي :
مبدئيا،ينبغي على الدولة،توفير سبل العيش الكريم لمختلف مواطنيها،سواء تعلموا أم لم يتعلموا،خاصة إذا كانت منظومتها شمولية،واقتصادها غير مبنين، يفتقد لهياكل التدبير العقلاني والآلياتي، المحكم بفلسفة موجهة،جوهرها التنافس الحر،حيث لكل حسب كفاءته ومجهوده.
بخصوص،الحرب على الاستحقاق الجامعي،ترتفع أصوات تعتبر نفسها منتمية إلى النخبة المتنورة،تدرك وتستوعب تطور المسارات والأنساق،أكثر من غيرها،فتصب أنواع الشتائم والرذائل،في حق معطلي الديبلومات وأصحاب الشواهد المنتسبة للجامعة،واصفة إياهم في المجمل الأعم،بالتأخر الذهني والقصور الذاتي،ماداموا لازالوا يراهنون على أجرة شهرية من الدولة،لا تغني ولاتسمن، بعد اصطفافهم في طابور الوظيفة العامة.
بالتالي،ما عليهم إلا أن يشمروا على سواعدهم،بهدف اقتحام دنيا المال والأعمال …،إلى آخر مقاطع هاته السيمفونية التي تستمد ربما تلاحينها الرخيمة، من نموذج تنموي لبلدان كالسويد والنرويج أو أمريكا واليابان،حيث التجذر الحقيقي لمنظومة سياسية تميز بين حدود سلطة الدولة وممكنات مجتمع مدني،يستند قانونيا وفلسفيا على شعار :دعه يمر،دعه يعمل،دعه ينتج.
أغلب دعاة أطروحة تبخيس قيمة المنتوج الجامعي،انتموا معرفيا إلى التيار التقنوقراطي،المرتبط روحيا بمدارس البعثات الأجنبية،حيث قضى هؤلاء مراحلهم التعليمية حتى الباكلوريا،وبعدها،انتقلوا مباشرة صوب أوروبا،وأعينهم على مجالات محض تقنية،تمهد لهم الطريق بسرعة،كي يحتلوا المواقع الأمامية في صنع القرار،ارتباطا بتوجه سياسي يراهن رسميا على التقنوقراط،من أجل تأثيث برامجه الظرفية والإجرائية،وجاهر صناع قراره منذ عقود،بأنهم لا يرغبون بتاتا في حملة للدكتوراه،بل مجرد أشخاص تعرفوا على القواعد المبدئية للقراءة والكتابة،وغادروا حجرات الدراسة، كي يمارسوا مهنا يدوية.
اجتماعيا،ينحدر هؤلاء من العائلات المزدادة وفي أفواهها ملاعق ذهبية، المنتسبة إلى الأقلية الأوليغارشية المحظوظة،المهيمنة منذ مطلع الاستقلال على السياسة والاقتصاد،أو تلك 10%المتحكمة في كل شيء،التي أخذت البلد نحو وجهة ثانية،غير ما أردته الحركة الوطنية ومن خلفها تطلعات القوات الشعبية.ولعل قضية البطالة عموما،والمتعلقة بالجامعيين خصوصا،تعتبر نتيجة هيكلية لقناعاتهم،وفي مقدمتها الإلغاء الكلي لقيمة التفكير والمفكرين.
هكذا،عندما نلقي نظرة على شرايين الاقتصاد،سنلاحظ أسماء بعينها،توارثت سلاليا جغرافية الثروة،ثم تفعّل المناحي السوسيوثقافية،وفق ما يخدم ديمومة مصالحها.اختلفت مسمياتها،لكن الإحالة نفسها : التحالف الطبقي،البورجوازية الهجينة،الكومبرادورية،الإقطاع،جيوب المقاومة،اللوبيات،بنيات الفساد،ثم العفاريت والتماسيح كما حاول السيد بن كيران،الاختباء وراء فسحة اللغة الأسطورية.
اقتصاد ريعي،أغلق نهائيا كل المنافذ،نحو مجتمع شفاف وتنافسي،يقدس التميز الفردي،الذي يمنح الجدارة مكانة الفيصل في مراتب الناس ومواقعهم المفترضة.
عندما ننجح عمليا،في تحريك دواليب مؤسسات دولة تزاوج بين ليبيرالية للسوق متوازنة،مع مايقتضيه المجال من تحديث مستمر للبنية السياسية في إطار توضح كامل لقواعدها،وفصل للسلط ثم خضوع الجميع لزجرية القضاء،مع نزاهة الأخير، ومدى رمزيته في عقول الحاكمين والمحكومين.حينذاك،ستنتشل الجامعة ذاتها تلقائيا،من بؤس الخبز اليومي وحكاياته المترهلة،وتعاود الاتصال ببذخ السؤال الحضاري العميق. لحظتها أيضا،لن يفكر في الذهاب إلى هاته الجامعة،سوى أصحاب العقول النيرة،مهندسي المشاريع العلمية المتينة،وهم طبعا،يتجاوزون بمراتب شاهقة، ضجيج السوق وأهل السوق.